فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآيات [56- 60]:

قوله تعالى: {يَا عبَاديَ الذينَ آمَنُوا إن أَرْضي وَاسعَة فَإيايَ فَاعْبُدُون (56) كُل نَفْسٍ ذَائقَةُ الْمَوْت ثُم إلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالذينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصالحَات لَنُبَوئَنهُمْ منَ الْجَنة غُرَفًا تَجْري منْ تَحْتهَا الْأَنْهَارُ خَالدينَ فيهَا نعْمَ أَجْرُ الْعَاملينَ (58) الذينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبهمْ يَتَوَكلُونَ (59) وَكَأَينْ منْ دَابةٍ لَا تَحْملُ رزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُهَا وَإياكُمْ وَهُوَ السميعُ الْعَليمُ (60)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما أبلغ في الإنذار، وحذر من الأمور الكبار، ولم يهمل الإشارة إلى الصغار، وكانت هذه الآيات في المتعنتين من الكفار، وكان قد كرر أن هذه المواعظ إنما هي للمؤمنين، قال مخاطبًا لهم معرضًا عن سواهم إذا كانت أسماعهم لبليغ هذه المواعظ قد أصغت، وقلوبهم لجليل هذه الإنذارات قد استيقظت، التفاتًا على قراءة الجمهور إلى التلذيذ في المناجاة بالإفراد والإبعاد من مداخل التعنت: {يا عبادي} فشرفهم بالإضافة، ولكنه لما أشار بأداة البعد إلى أن فيهم من لم يرسخ، حقق ذلك بقوله: {الذين آمنوا} أي وإن كان الإيمان باللسان مع أدنى شعبة من القلب.
ولما كان نزول هذه السورة بمكة، وكانوا بها مستخفين بالعبادة خوفًا من الكفار، وكانت الهجرة الأهل والأوطان شديدة، قال مؤكدًا تنبيهًا على أن حال من ترك الهجرة حال من يظن أن الأرض ضيقة: {إن أرضي واسعة} أي في الذات والرزق وكل ما تريدون من الرفق، فإن لم تتمكنوا بسبب هؤلاء المعاندين الذين يفتنونكم في دينكم ويمنعونكم من الإخلاص إلي في أرضكم والاجتهاد في عبادتي حتى يصير الإيمان لكم وصفًا، فهاجروا إلى أرض تتمكنون فيها من ذلك.
ولما كانت الإقامة بها قبل الفتح مؤدية إلى الفتنة، وكان المفتون ربما طاوع بلسانه، وكان ذلك وإن كان القلب مطمئنًا بالإيمان في صورة الشرك قال: {فإياي} أي خاصة بالهجرة إلى أرض تأمنون فيها اعبدوا وتنبهوا {فاعبدون} بسبب ما دبرت لكم من المصالح من توسيع الأرض وغيره، عبادة لا شرك فيها، لا باللسان ولا بغيره ولا استخفافًا بها ولا مراعاة لمخلوق في معصيته، ولا شيء يجر إليها بالهرب ممن يمنعكم من ذلك إلى من يعينكم عليه.
ولما كانت الهجرة شديدة المرارة لأنها مرت في المعنى من حيث كونها مفارقة المألوف المحبوب من العشير والبلد والمال، وكان في الموت ذلك كله بزيادة، قال مؤكدًا بذلك مذكرًا به مرهبًا من ترك الهجرة: {كل نفس ذائقة الموت} أي مفارقة كل ما ألفت حتى بدنًا طالما لابسته، وآنسها وآنسته، فإن أطاعت ربها أنجت نفسها ولم تنقصها الطاعة في الأجل شيئًا، وإلا أوبقت نفسها ولم تزدها المعصية في الأجل شيئًا، فإذا قدر الإنسان أنه مات سهلت عليه الهجرة، فإنه إن لم يفارق بعض مألوفه بها فارق كل مألوفه بالموت، وما ذكر الموت في عسير إلا يسره، ولا يسير إلا عسره وكدره.
ولما هون أمر الهجرة، حذر من رضي في دينه بنوع نقص لشيء من الأشياء حثًا على الاستعداد بغاية الجهد في التزود للمعاد فقال: {ثم إلينا} على عظمتنا، لا إلى غيرنا {ترجعون} على أيسر وجه، فيجازي كلًا منكم بما عمل.
ولما كان التقدير: فالذين آمنوا فلبسوا إيمانهم بنوع نقص لننقصنهم في جزائهم، والذين كفروا لنركسنهم في جهنم دركات تحت دركات فبئس مثوى الظالمين، ولكنه لما تقدم ذكر العذاب قريبًا، وكان القصد هنا الترغيب في الإيمان كيفما كان، طواه ودل عليه بأن عطف عليه قوله: {والذين آمنوا وعملوا} أي تصديقًا لإيمانهم {الصالحات} أي كلها.
ولما كان الكفار ينكرون البعث، فكيف ما بعده، أكد قوله: {لنبوئنهم} أي لنسكننهم في مكان هو جدير بأن يرجع إليه من حسنه وطيبه من خرج منه لبعض أغراضه، وهو معنى {من الجنة غرفًا} أي بيوتًا عالية تحتها قاعات واسعة بهية عالية، وقريب من هذا المعنى قراءة حمزة والكسائي بالثاء المثلثة من ثوى بالمكان- إذا أقام به.
ولما كانت العلالي لا تروض إلا بالرياض قال: {تجري} ولما كان عموم الماء لجهة التحت بالعذاب أشبه، بعضه فقال: {من تحتها الأنهار} ومن المعلوم أنه لا يكون في موضع أنهار، إلا كان به بساتين كبار، وزروع ورياض وأزهار- فيشرفون عليها من تلك العلالي.
ولما كانت بحالة لا نكد فيها يوجب هجره في لحظة ما، كنى عنه بقوله: {خالدين فيها} أي لا يبغون عنها حولًا؛ ثم عظم أمرها، شرف قدرها، بقوله: {نعم أجر العاملين} ثم وصفهم بما يرغب في الهجرة، فقال معرفًا بجماع الخير كله الصبر وكونه على جهة التفويض لله، منبهًا على أن الإنسان لا ينفك عن أمر شاق ينبغي الصبر عليه: {الذين صبروا} أي أوجدوا هذه الحقيقة حتى استقرت عندهم فكانت سجية لهم، فأوقعوها على كل شاق من التكاليف من هجرة وغيرها.
ولما كان الإنسان إلى المحسن إليه أميل، قال مرغبًا في الاستراحة بالتفويض إليه: {وعلى ربهم} أي وحده لا على أهل ولا وطن {يتوكلون} أي يوجدون التوكل إيجادًا مستمر التجديد عند كل مهم يعرض لهم إرزاقهم بعد الهجرة وغيرها وجهاد أعدائهم وغير ذلك من أمورهم.
ولما أشار بالتوكل إلى أنه الكافي في أمر الرزق في الوطن والغربة، لا مال ولا أهل، قال عاطفًا على ما تقديره: فكأي من متوكل عليه كفاه، ولم يحوجه إلى أحد سواه، فليبادر من أنقذه من الكفر وهداه إلى الهجرة طالبًا لرضاه: {وكأين من دابة} أي كثير من الدواب العاقلة وغيرها {لا تحمل} أي لا تطيق أن تحمل {رزقها} ولا تدخر شيئًا لساعة أخرى، لأنها قد لا تدرك نفع ذلك، وقد تدركه وتتوكل، أو لا تجد.
ولما كان موضع أن يقال: فمن يرزقها؟ قال جوابًا له: {الله} أي المحيط علمًا وقدرة، المتصف بكل كمال {يرزقها} وهي لا تدخر {وإياكم} وأنتم تدخرون، لا فرق بين ترزيقه لها على ضعفها وترزيقه لكم على قوتكم وادخاركم، فإن الفريقين تارة يجدون وتارة لا يجدون، فصار الادخار وعدمه غير معتد به ولا منظور إليه.
ولما كان أهم ما للحيوان الرزق، فهو لا يزال في تدبيره بما يهجس في ضميره وينطق به إن كان ناطقًا ويهمهم به إن كان صامتًا، أما العاقل فبأمور كلية، وأما غيره فبأشياء جزئية وحدانية، وكان العاقل ربما قال: إني لا أقدر على قطع العلائق من ذلك، قال تعالى: {وهو السميع} أي لما يمكن أن يسمع في أمره وغير أمره {العليم} أي بما يعلم من ذلك، وبما يصير إليه أمركم وأمر عدوكم، فهو لم يأمركم بما أمركم به إلا وقد أعد له أسبابه، وهو قادر على أن يسبب لما اعتمد عليه الإنسان من الأسباب المنتجة عنده ولابد ما يعطله، وعلى أن يسبب للمتوكل القاطع للعلائق ما يغنيه، ومن طالع كتب التصوف وتراجم القوم وسير السلف- نفعنا الله بهم- وجد كثيرًا من ذلك بما يبصره ويسليه سبحانه ويصبره. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{يَا عبَاديَ الذينَ آمَنُوا إن أَرْضي وَاسعَة فَإيايَ فَاعْبُدُون (56)}.
وجه التعلق هو أن الله تعالى لما ذكر حال المشركين على حدة وحال أهل الكتاب على حدة وجمعهما في الإنذار وجعلهما من أهل النار اشتد عنادهم وزاد فسادهم وسعوا في إيذاء المؤمنين ومنعوهم من العبادة فقال مخاطبًا للمؤمنين {ياعبادى الذين ءامَنُوا إن أَرْضى وَاسعَة فَإياىَ فاعبدون} إن تعذرت العبادة عليكم في بعضها فهاجروا ولا تتركوا عبادتي بحال، وبهذا علم أن الجلوس في دار الحرب حرام والخروج منها واجب، حتى لو حلف بالطلاق أنه لا يخرج لزمه الخروج، حتى يقع الطلاق ثم في الآية مسائل:
المسألة الأولى:
{يا عبَادي} لم يرد إلا المخاطبة مع المؤمنين مع أن الكافر داخل في قوله: {يا عبَادى} نقول ليس داخلًا في قوله: {يا عبَادي} نقول ليس داخلًا فيه لوجوه: أحدها: أن من قال في حقه {عبَادى} ليس للشيطان عليهم سلطان بدليل قوله تعالى: {إن عبَادى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهمْ سلطان} [الحجر: 42] والكافر تحت سلطنة الشيطان فلا يكون داخلًا في قوله: {يا عبَادى} الثاني: هو أن الخطاب بعبادي أشرف منازل المكلف، وذلك لأن الله تعالى لما خلق آدم آتاه اسمًا عظيمًا وهو اسم الخلافة كما قال تعالى: {إني جَاعل في الأرض خَليفَةً} [البقرة: 30] والخليفة أعظم الناس مقدارًا وأتم ذوي البأس اقتدارًا، ثم إن إبليس لم يرهب من هذا الاسم ولم ينهزم، بل أقدم عليه بسببه وعاداه وغلبه كما قال تعالى: {فَأَزَلهُمَا الشيطان} [البقرة: 36] ثم إن من أولاده الصالحين من سمى بعبادي فانخنس عنهم الشيطان وتضاءل، كما قال تعالى: {إن عبَادى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهمْ سلطان} [الحجر: 42] وقال هو بلسانه {لأَغْويَنهُمْ أَجْمَعينَ إلا عبَادَكَ} فعلم أن المكلف إذا كان عبدًا لله يكون أعلى درجة مما إذا كان خليفة لوجه الأرض ولعل آدم كداود الذي قال الله تعالى في حقه {إنا جعلناك خَليفَةً في الأرض} [ص: 26] لم يتخلص من يد الشيطان إلا وقت ما قال الله تعالى في حقه عبدي وعندما ناداه بقوله: {رَبنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف: 23] واجتباه بهذا النداء، كما قال في حق داود {واذكر عَبْدَنَا دَاوُودُ ذَا الأيد} [ص: 17] إذا علم هذا فالكافر لا يصلح للخلافة فكيف يصلح لما هو أعظم من الخلافة؟ فلا يدخل في قوله: {يا عبَادى} إلا المؤمن.
الثالث: هو أن هذا الخطاب حصل للمؤمن بسعيه بتوفيق الله، وذلك لأن الله تعالى قال: {ادعونى أَسْتَجبْ لَكُمْ} [غافر: 60] فالمؤمن دعا ربه بقوله: {ربنَا إننَا سَمعْنَا مُنَاديًا يُنَادى للإيمان أَنْ ءامنُوا برَبكُمْ فَئَامَنا} [آل عمران: 193] فأجابه الله تعالى بقوله: {ياعبادى الذين أَسْرَفُوا على أَنفُسهمْ لاَ تَقْنَطُوا من رحْمَة الله} [الزمر: 53] فالإضافة بين الله وبين العبد بقول العبد إلهي وقول الله عبدي تأكدت بدعاء العبد، لكن الكافر لم يدع فلم يجب، فلا يتناول يا عبادي غير المؤمنين.
المسألة الثانية:
إذا كان عبادي لا يتناول إلا المؤمنين فما الفائدة في قوله: {الذين آمنوا} مع أن الوصف إنما يذكر لتمييز الموصوف، كما يقال يا أيها المكلفون المؤمنون، ويا أيها الرجال العقلاء تمييزًا عن الكافرين والجهال، فنقول الوصف يذكر لا للتمييز بل لمجرد بيان أن فيه الوصف كما يقال الأنبياء المكرمون والملائكة المطهرون، مع أن كل نبي مكرم وكل ملك مطهر، وإنما يقال لبيان أن فيهم الإكرام والطهارة، ومثل هذا قولنا الله العظيم وزيد الطويل، فههنا ذكر لبيان أنهم مؤمنون.
المسألة الثالثة:
إذ قال: {يا عبَادى} فهم يكونون عابدين فما الفائدة في الأمر بالعبادة بقوله: {فاعبدون}؟ فنقول فيه فائدتان إحداهما: المداومة أي يا من عبدتموني في الماضي اعبدوني في المستقبل الثانية: الإخلاص أي يا من تعبدني أخلص العمل لي ولا تعبد غيري.
المسألة الرابعة:
الفاء في قوله: {فإياي} تدل على أنه جواب لشرط فما ذلك؟ فنقول قوله: {إن أَرْضى وَاسعَة} إشارة إلى عدم المانع من عبادته فكأنه قال إذا كان لا مانع من عبادتي فاعبدوني، وأما الفاء في قوله تعالى: {فاعبدون} فهو لترتيب المقتضى على المقتضى كما يقال هذا عالم فأكرموه فكذلك هاهنا لما أعلم نفسه بقوله: {فإياي} وهو لنفسه يستحق العبادة قال: {فاعبدون}.
المسألة الخامسة:
قال العبد مثل هذا في قوله: {إياكَ نَعْبُدُ} وقال عقيبه: {وَإياكَ نَسْتَعينُ} والله تعالى وافقه في قوله: {فَإياىَ فاعبدون} ولم يذكر الإعانة نقول بل هي مذكورة في قوله: {يا عبَادي} لأن المذكور بعبادي لما كان الشيطان مسدود السبيل عليه مسدود القبيل عنه كان في غاية الإعانة.
المسألة السادسة:
قدم الله الإعانة وأخر العبد الاستعانة، قلنا لأن العبد فعله لغرض وكل فعل لغرض، فإن الغرض سابق على الفعل في الإدراك، وذلك لأن من يبني بيتًا للسكنى يدخل في ذهنه أولًا فائدة السكنى فيحمله على البناء، لكن الغرض في الوجود لا يكون إلا بعد فعل الواسطة، فنقول الاستعانة من العبد لغرض العبادة فهي سابقة في إدراكه، وأما الله تعالى فليس فعله لغرض فراعى ترتيب الوجود، فإن الإعانة قبل العبادة.
{كُل نَفْسٍ ذَائقَةُ الْمَوْت ثُم إلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57)}.
لما أمر الله تعالى المؤمنين بالمهاجرة صعب عليهم ترك الأوطان ومفارقة الإخوان، فقال لهم إن ما تكرهون لابد من وقوعه فإن كل نفس ذائقة الموت والموت مفرق الأحباب فالأولى أن يكون ذلك في سبيل الله فيجازيكم عليه، فإن إلى الله مرجعكم، وفيه وجه أرق وأدق، وهو أن الله تعالى قال: كل نفس إذا كانت غير متعلقة بغيرها فهي للموت، ثم إلى الله ترجع فلا تموت كما قال تعالى: {لاَ يَذُوقُونَ فيهَا الموت} [الدخان: 56] إذا ثبت هذا فمن يريد ألا يذوق الموت لا يبقى مع نفسه فإن النفس ذائقته بل يتعلق بغيره وذلك الغير إن كان غير الله فهو ذائق الموت ومورد الهلاك بقوله: {كُل نَفْسٍ ذَائقَةُ الموت} و{كُل شيْء هَالك إلا وَجْهَهُ} [القصص: 88] فإذًا التعلق بالله يريح من الموت فقال تعالى: {فَإياىَ فاعبدون} أي تعلقوا بي، ولا تتبعوا النفس فإنها ذائقة الموت {ثُم إلَيْنَا تُرْجَعُونَ} أي إذا تعلقتم بي فموتكم رجوع إلي وليس بموت كما قال تعالى: {وَلاَ تَحْسَبَن الذين قُتلُوا في سَبيل الله أمواتا بَلْ أَحْيَاء} [آل عمران: 169] وقال عليه السلام: «المؤمنون لا يموتون بل ينقلون من دار إلى دار» فعلى هذا الوجه أيضًا يتبين وجه التعلق.